بين إسلامي وعلماني
د. رفيق حبيب
تتشكل الخريطة السياسية في أي مجتمع من خلال التنوع الموجود داخل هذا المجتمع، والذي ينعكس بالتالي على القوى السياسية الفاعلة فيه. وفي الحالة الغربية، نجد أن النخب السياسية شكلت أحزابا تعبر عن مصالح قطاعات في المجتمع، مما جعل لكل حزب قطاعات تقليدية تؤيده، وتتغير تلك الخريطة حسب تغير الظروف الاجتماعية والسياسية، وإن كان لها قدر من الثبات النسبي. ولكن في حالة المجتمعات العربية، بعد موجة الثورات العربية الشعبية، سنجد أننا بصدد مرحلة انتقالية، تتشكل فيها القوى السياسية، تبعا لما يسفر عنه التفاعل السياسي والمجتمعي. فالمجتمع المصري مثلا، ومنذ ما قبل الثورة الشعبية، كانت له اتجاهات مجتمعية وسياسية، تشكلت من خلال حالة الجدل السياسي والثقافي الإعلامي، ومن خلال الاختيارات الشعبية التلقائية لفئات المجتمع نفسه. فأصبح للمجتمع خريطة للميول والاختيارات المجتمعية والسياسية، ولكنها لم تكن فاعلة في التأثير على مجمل الأوضاع السياسية، نظرا لحالة الاستبداد السياسي.
وبعد الثورة الشعبية، ظهرت الاتجاهات المجتمعية والسياسية على السطح، من خلال التفاعل الحر في المواقف المختلفة، وعبرت تلك الاتجاهات عن نفسها في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، وفي حالة الجدل السياسي المنتشرة في المجتمع مع بداية مرحلة الحرية والتعددية. واشتبكت الحالة الإعلامية مع الحالة المجتمعية، في محاولة لتشكيل الاختيارات السياسية للمجتمع، من خلال أدوات الإعلام. ولكن الخريطة السياسية للمجتمع المصري لم تكتمل بعد، فالتيارات الأساسية والفرعية، لم تتشكل بصورة توضح كل تركيبة المؤيدين لكل تيار ونوعيتهم. ولم تظهر بعد التركيبة التي تؤيد تيار إسلامي دون التيارات الإسلامية الأخرى، أو تؤيد اتجاه علماني دون الاتجاهات العلمانية الأخرى.
ولكن أول ما ظهر هو التقسيم بين إسلامي وعلماني، وبات واضحا أن المسافة الفاصلة بين الإسلامي والعلماني، هي المسافة الأكثر بروزا، وهي التي تشكل حالة الاستقطاب السياسي الحالي، والتي ظهرت مباشرة بعد الثورة وفي الاستفتاء على التعديلات الدستورية. ووجود الاستقطاب السياسي جزء من حالة التنافس السياسي، وهو أمر من مستلزمات الممارسة الديمقراطية. فكل تنافس سياسي يحدث حالة من الاستقطاب بين فريقين أو عدة فرق، فكل فريق يسعى إلى أن يكون الفريق الأكبر أو الفريق الفائز. وربما يكون من التبعات السلبية أحيانا للانتخابات، أنها تحدث حالة استقطاب مجتمعي، ولكن إدارة هذه الحالة من خلال آليات العمل الديمقراطي، والاحتكام لصندوق الاقتراع، يمثل الحل السلمي والرشيد لإدارة حالة الاستقطاب السياسي أو المجتمعي، الناتجة عن تعدد الرؤى والاختيارات السياسية والمجتمعية.
وقد ظهرت حالة الاستقطاب السياسي بين الإسلامي والعلماني، بصورة سريعة، فربما كان من المتوقع أو المفترض، أن تكون المرحلة الانتقالية هي مرحلة توافق وطني، حتى يوضع دستور جديد للبلاد، ويؤسس لنظام سياسي جديد، ثم تبدأ مرحلة التنافس السياسي بعد ذلك. ولكن الصورة على أرض الواقع تؤكد أن التنافس السياسي، وما يتبعه من استقطاب سياسي قد بدأ مبكرا، وفي الاستفتاء على التعديلات الدستورية وقبلها، دخلنا مرحلة التنافس السياسي بعد الثورة، دون المرور على مرحلة التوافق الوطني اللازمة لمرحلة بناء نظام سياسي جديد. ومن الواضح أن المجتمع المصري سوف يشهد دخولا سريعا إلى التنافس السياسي في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وأن لحظة التوافق الوطني التي تمثلت في ميدان التحرير، يصعب أن تستمر في مرحلة بناء النظام السياسي الجديد.
والمشكلة التي أنتجت هذا الوضع، هي الاختلاف المحوري بين الإسلامي والعلماني. فالاختلاف بينهما في قضية جوهرية ومركزية، رغم أن التوافق بينهما في العديد من القضايا حاضر بصورة واضحة. فلا توجد خلافات في تصور دولة المؤسسات والقانون، ولا في آليات العمل الديمقراطي النزيه، ولا في الفصل بين السلطات، وأهمية محاربة شبكة الاستبداد والفساد. وكأن الاتفاق بين الإسلامي والعلماني يتركز في أدوات وشكل دولة الحرية العدالة، ولكنه يختلف في مرجعية هذه الدولة.
والحادث أن القوى السياسية في مصر تنقسم إلى قوى إسلامية وقوى علمانية، والاختلاف بينهم في تحديد المرجعية العليا الملزمة للنظام السياسي. فالعلماني يرى أن المرجعية العليا يجب أن تكون القيم المؤسسة لنموذج الدولة الحديثة المطبق في الغرب، والإسلامي يرى أن المرجعية العليا للنظام السياسي هي قيم ومبادئ الدين. والعلماني يرى أن النخب هي المؤهلة لصياغة المرجعية العليا للنظام السياسي، والإسلامي يرى أن المرجعية العليا يجب أن تكون اختيارا حرا للإرادة الشعبية، والتي يدعوها إلى المرجعية الإسلامية، ويدرك أن هذه المرجعية هي الاختيار الحر للأغلبية المجتمعية.
ولأن الخلاف حول الأساس الذي يحدد القيم الملزمة للنظام السياسي، ولأن تحديد هذه القيم يأتي في مرحلة التأسيس، لذا أصبح الاختلاف والاستقطاب العلماني الإسلامي حاضرا منذ اللحظة الأولى. لأنه بمجرد وضع دستور يحدد القيم الملزمة للنظام السياسي، تصبح هوية الدولة قد تحددت، لذا لم يكن من الممكن تأجيل التنافس والاستقطاب السياسي بين الإسلامي والعلماني إلى ما بعد تأسيس نظام سياسي جديد، لأن هذا النظام لا يمكن أن يتأسس دون تحديد القيم العليا المؤسسة له. فكل نظام سياسي يقوم على دستور يحدد القيم العليا التي لا يمكن الخروج عليها، وبدون هذا التحديد سوف يختل ميزان التشريع والممارسة السياسية، ويسمح بأي تشريعات متعارضة في أساسها، وتصبح الممارسة السياسية للسلطة بدون قيود. وكل نظام سياسي يكون مقيدا بمنظومة قيم تحدد توجهاته، وهي القيم التي يحددها الدستور، محددا بذلك هوية الدولة ومرجعيتها. لذا كان التنافس والاستقطاب هو سيد الموقف، لأن المرحلة الانتقالية سوف تحدد هوية الدولة، ولهذا تضاءلت فرص التوافق الوطني، لأن بين الإسلامي والعلماني خلاف جوهري حول القيم الثابتة التي يجب أن تلتزم بها الدولة، وهل هي القيم المستمدة من المرجعية الدينية، أم القيم المستمدة من العقل البشري والتجربة الغربية
د. رفيق حبيب
تتشكل الخريطة السياسية في أي مجتمع من خلال التنوع الموجود داخل هذا المجتمع، والذي ينعكس بالتالي على القوى السياسية الفاعلة فيه. وفي الحالة الغربية، نجد أن النخب السياسية شكلت أحزابا تعبر عن مصالح قطاعات في المجتمع، مما جعل لكل حزب قطاعات تقليدية تؤيده، وتتغير تلك الخريطة حسب تغير الظروف الاجتماعية والسياسية، وإن كان لها قدر من الثبات النسبي. ولكن في حالة المجتمعات العربية، بعد موجة الثورات العربية الشعبية، سنجد أننا بصدد مرحلة انتقالية، تتشكل فيها القوى السياسية، تبعا لما يسفر عنه التفاعل السياسي والمجتمعي. فالمجتمع المصري مثلا، ومنذ ما قبل الثورة الشعبية، كانت له اتجاهات مجتمعية وسياسية، تشكلت من خلال حالة الجدل السياسي والثقافي الإعلامي، ومن خلال الاختيارات الشعبية التلقائية لفئات المجتمع نفسه. فأصبح للمجتمع خريطة للميول والاختيارات المجتمعية والسياسية، ولكنها لم تكن فاعلة في التأثير على مجمل الأوضاع السياسية، نظرا لحالة الاستبداد السياسي.
وبعد الثورة الشعبية، ظهرت الاتجاهات المجتمعية والسياسية على السطح، من خلال التفاعل الحر في المواقف المختلفة، وعبرت تلك الاتجاهات عن نفسها في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، وفي حالة الجدل السياسي المنتشرة في المجتمع مع بداية مرحلة الحرية والتعددية. واشتبكت الحالة الإعلامية مع الحالة المجتمعية، في محاولة لتشكيل الاختيارات السياسية للمجتمع، من خلال أدوات الإعلام. ولكن الخريطة السياسية للمجتمع المصري لم تكتمل بعد، فالتيارات الأساسية والفرعية، لم تتشكل بصورة توضح كل تركيبة المؤيدين لكل تيار ونوعيتهم. ولم تظهر بعد التركيبة التي تؤيد تيار إسلامي دون التيارات الإسلامية الأخرى، أو تؤيد اتجاه علماني دون الاتجاهات العلمانية الأخرى.
ولكن أول ما ظهر هو التقسيم بين إسلامي وعلماني، وبات واضحا أن المسافة الفاصلة بين الإسلامي والعلماني، هي المسافة الأكثر بروزا، وهي التي تشكل حالة الاستقطاب السياسي الحالي، والتي ظهرت مباشرة بعد الثورة وفي الاستفتاء على التعديلات الدستورية. ووجود الاستقطاب السياسي جزء من حالة التنافس السياسي، وهو أمر من مستلزمات الممارسة الديمقراطية. فكل تنافس سياسي يحدث حالة من الاستقطاب بين فريقين أو عدة فرق، فكل فريق يسعى إلى أن يكون الفريق الأكبر أو الفريق الفائز. وربما يكون من التبعات السلبية أحيانا للانتخابات، أنها تحدث حالة استقطاب مجتمعي، ولكن إدارة هذه الحالة من خلال آليات العمل الديمقراطي، والاحتكام لصندوق الاقتراع، يمثل الحل السلمي والرشيد لإدارة حالة الاستقطاب السياسي أو المجتمعي، الناتجة عن تعدد الرؤى والاختيارات السياسية والمجتمعية.
وقد ظهرت حالة الاستقطاب السياسي بين الإسلامي والعلماني، بصورة سريعة، فربما كان من المتوقع أو المفترض، أن تكون المرحلة الانتقالية هي مرحلة توافق وطني، حتى يوضع دستور جديد للبلاد، ويؤسس لنظام سياسي جديد، ثم تبدأ مرحلة التنافس السياسي بعد ذلك. ولكن الصورة على أرض الواقع تؤكد أن التنافس السياسي، وما يتبعه من استقطاب سياسي قد بدأ مبكرا، وفي الاستفتاء على التعديلات الدستورية وقبلها، دخلنا مرحلة التنافس السياسي بعد الثورة، دون المرور على مرحلة التوافق الوطني اللازمة لمرحلة بناء نظام سياسي جديد. ومن الواضح أن المجتمع المصري سوف يشهد دخولا سريعا إلى التنافس السياسي في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وأن لحظة التوافق الوطني التي تمثلت في ميدان التحرير، يصعب أن تستمر في مرحلة بناء النظام السياسي الجديد.
والمشكلة التي أنتجت هذا الوضع، هي الاختلاف المحوري بين الإسلامي والعلماني. فالاختلاف بينهما في قضية جوهرية ومركزية، رغم أن التوافق بينهما في العديد من القضايا حاضر بصورة واضحة. فلا توجد خلافات في تصور دولة المؤسسات والقانون، ولا في آليات العمل الديمقراطي النزيه، ولا في الفصل بين السلطات، وأهمية محاربة شبكة الاستبداد والفساد. وكأن الاتفاق بين الإسلامي والعلماني يتركز في أدوات وشكل دولة الحرية العدالة، ولكنه يختلف في مرجعية هذه الدولة.
والحادث أن القوى السياسية في مصر تنقسم إلى قوى إسلامية وقوى علمانية، والاختلاف بينهم في تحديد المرجعية العليا الملزمة للنظام السياسي. فالعلماني يرى أن المرجعية العليا يجب أن تكون القيم المؤسسة لنموذج الدولة الحديثة المطبق في الغرب، والإسلامي يرى أن المرجعية العليا للنظام السياسي هي قيم ومبادئ الدين. والعلماني يرى أن النخب هي المؤهلة لصياغة المرجعية العليا للنظام السياسي، والإسلامي يرى أن المرجعية العليا يجب أن تكون اختيارا حرا للإرادة الشعبية، والتي يدعوها إلى المرجعية الإسلامية، ويدرك أن هذه المرجعية هي الاختيار الحر للأغلبية المجتمعية.
ولأن الخلاف حول الأساس الذي يحدد القيم الملزمة للنظام السياسي، ولأن تحديد هذه القيم يأتي في مرحلة التأسيس، لذا أصبح الاختلاف والاستقطاب العلماني الإسلامي حاضرا منذ اللحظة الأولى. لأنه بمجرد وضع دستور يحدد القيم الملزمة للنظام السياسي، تصبح هوية الدولة قد تحددت، لذا لم يكن من الممكن تأجيل التنافس والاستقطاب السياسي بين الإسلامي والعلماني إلى ما بعد تأسيس نظام سياسي جديد، لأن هذا النظام لا يمكن أن يتأسس دون تحديد القيم العليا المؤسسة له. فكل نظام سياسي يقوم على دستور يحدد القيم العليا التي لا يمكن الخروج عليها، وبدون هذا التحديد سوف يختل ميزان التشريع والممارسة السياسية، ويسمح بأي تشريعات متعارضة في أساسها، وتصبح الممارسة السياسية للسلطة بدون قيود. وكل نظام سياسي يكون مقيدا بمنظومة قيم تحدد توجهاته، وهي القيم التي يحددها الدستور، محددا بذلك هوية الدولة ومرجعيتها. لذا كان التنافس والاستقطاب هو سيد الموقف، لأن المرحلة الانتقالية سوف تحدد هوية الدولة، ولهذا تضاءلت فرص التوافق الوطني، لأن بين الإسلامي والعلماني خلاف جوهري حول القيم الثابتة التي يجب أن تلتزم بها الدولة، وهل هي القيم المستمدة من المرجعية الدينية، أم القيم المستمدة من العقل البشري والتجربة الغربية