التفسير السياسي للهجوم على السلفية
بدايةً لابد أن أتفهم أن ثمة بعداً فكرياً وأيدلوجياً، عند كل الأطراف المشتركة في الهجوم الشديد والجائر على التيارات السلفية في مصر اليوم، وهو الهجوم الذي جاء على خلفية التحركات والنشاطات الواسعة التي قامت بها مختلف الفصائل السلفية، والتي جاءت أثر السقوط المدوي للنظام الديكتاتوري الحاكم في مصر في فبراير الماضي، ومن باب الإنصاف أن هذه التحركات والنشاطات كانت في مجملها غير راشدة، و تحمل قدراً لا بأس به من عدم النضج السياسي، فكثرة المؤتمرات والتي وصلت إلى قرابة المائة مؤتمر حتى كتابة هذه السطور، وطافت جميع المحافظات والمدن المصرية الكبيرة تقريباً، كانت كفيلة لبث الرعب والفزع في أنصار العلمانية والليبرالية ليس في مصر وحدها، ولكن في المنطقة بأسرها، ثم جاءت نتيجة الاستفتاءات على التعديلات الدستورية؛ لتمثل لطمة قوية للعلمانيين والتغريبيين في مصر، بعد أن تبنى التيار الإسلامي عموماً، والسلفي خصوصاً الموافقة على التعديلات، مما أفقد العلمانيين صوابهم، وكشف لهم عن الحجم الحقيقي للتأثير السلفي، وما يستطيع أن يحدثه من فارق في مجرى الحياة السياسية، ومن ثم انطلقت حملات الاستعداء والاستنفار والتحشيد ضد التيارات السلفية.
واختصار لبّ هذه الحملة الشرسة ضد التيار السلفي في مصر في مسألة عداوة الدين، واختزاله في بعده العقدي فقط، يورثنا كثيراً من الإشكاليات، ويؤكد على قول من يتهم السلفيين بالسذاجة السياسية وعدم الأهلية لأمثال هذه الأنشطة، كما أنه يشوش بشكل ملحوظ على الأداء السياسي للتيار السلفي بما يمثله من ثقل في الشارع المصري، وذلك على فرض صحة التقديرات لعدد المنتمين للتيار السلفي في مصر (4، 5 مليون سلفي)، والحق أن الهجوم على السلفية في مصر هذه الأيام يحتاج لتفسير سياسي، وقراءة متأنية، تتجرد من أسر التفسير العقدي لكل الأحداث المتشابكة في المشهد السياسي في البلاد، خاصة في موسم التحالفات والانقلابات والتكتيكات المتبادلة بين أطراف العملية السياسية المصرية، ونستطيع أن نقول أن القراءة السياسية للحملة الشرسة على السلفية الآن، تدور على عدة مسارات ومحاور، ولأسباب ودوافع معينة منها:
محور الاستدراج والتخويف
المتابع للمشهد السياسي والإعلامي في مصر في أعقاب نجاح الثورة يلاحظ تسارعاً كبيراً في الحركة والأداء الإعلامي لدي التيارات الإسلامية عموماً، والسلفي خصوصاً، وهذا التسارع كان طبيعياً نتيجة عقود من التحييد والتهميش والإقصاء العنيف من جانب حكومة الديكتاتور مبارك، وفي ظل أجواء الحرية الجديدة نشطت وتحركت كافة التيارات السياسية والاجتماعية وقوي المعارضة، وبالتالي لم يلحظ أحد أن ثمة استدراج خفي يجري التخطيط له على نار هادئة للتيار السلفي، حيث أخذت وسائل الإعلام تغطية مؤتمرات التيار السلفي الجماهيرية بدقة، وتتابع الخطاب الدعوي والسياسي لهذه المؤتمرات بعناية فائقة، ونقل أخباره أولا بأول، وأخذت في إفساح المجال لكل الرموز المحسوبة على التيار السلفي بمعناه الواسع، فعبود الزمر مثلا بما يمثله من خلفية تاريخية لأحداث غيرت مسار المشهد السياسي المصري، وأثرت بشدة في ذاكرة ووجدان المصريين، يتم إبراز خبر الإفراج عنه، وتغطيته إعلامياً بصورة واسعة، وتسابقت وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية في استضافته، وأفسح المجال له بكل حرية ليتكلم بكل ما يعن له من أفكار ورؤى وأطروحات، وكذلك الحال مع ابن عمه طارق الزمر، وبالتوازي مع الإبراز الإعلامي لحركة ورموز السلفية، كانت ثمة نشاطات واسعة تدعو المتبصرين للتدبر فيها والتروي في الحكم عليها، ومعرفة أسرارها وأسبابها، فقد أخذ شيوخ السلفية في غزو الجامعات المصرية من أقصاها لأدناها، يدخلون بعلم إدارة الجامعة وموافقتها، ويلقون محاضرات حاشدة، يحضرها آلاف الطلبة، مع العلم أن الواحد من هؤلاء الفضلاء من قبل كان محاصراً ومضيقاً عليه، ولا يستطيع أن ينتقل خارج بلده التي يقيم بها إلا بعد عناء كبير، وموافقة من الجهات الأمنية.
هذه النشاطات الواسعة والتحركات الكثيرة للتيار السلفي، والتي تلقى كل حرية وترحيب، وموافقة وتيسير من كافة الجهات المسئولة والمعنية، حتى أنه لا يكاد أن يمر يوم في أيام الأسبوع منذ سقوط مبارك، إلا وللسلفيين فيه مؤتمر منعقد في مدينة من المدن، مثلت فرصة ذهبية لأعداء التيار الإسلامي عامة والسلفي خاصة، للتخويف والتشويه لهذا التيار، واتهامه بالاستيلاء على المشهد الإعلامي والسياسي في مصر، والقفز على أكتاف الثورة، من كثرة تحركاته ومؤتمراته، وبدأ الناس يتساءلون: أين كان هؤلاء من قبل؟!، وأين دورهم السياسي والإعلامي من قبل؟!، وبدأت حملات التخويف بالتعرض للخطاب السلفي الدعوي والاجتماعي، وتشويهه بأحط وأقذر الوسائل والأكاذيب، وتوالت الحملات الدعائية مدفوعة الأجر من صحف ومواقع لها توجهاتها المعروفة، ومعلوم للجميع من يقف ورائها، فجريدة المصري اليوم واليوم السابع وهما من أشد الصحف مهاجمة للتيار السلفي في مصر الآن، ملك للملياردير "نجيب ساويرس "، وجريدة الدستور ملك رجل الأعمال "رضا إدوار"، وكذلك المواقع الإلكترونية التابعة لهذه الصحف، وأخذت حملات التخويف تزداد باستنطاق المشايخ ببعض الفتاوى والآراء التي تم توظيفها واستغلالها في حملة التخويف من السلفيين في مصر، بل تم نسخ شرائط صوتية لمحاضرات قديمة لهؤلاء المشايخ والرموز، وتم عمل مونتاج لأقوالهم وآرائهم، و تم ابتسارها وتقطيعها لخدمة الهدف التحريضي والتشويهي للتيار السلفي.
محور فك التحالف السلفي الإخواني
أصدق وصف للحالة المصرية بكل تفريعاتها بعد الثورة، أنها مرحلة ما بعد الجماعات، أو مرحلة التئام الصفوف وتوحيد الراية، فإن من أعظم نتائج الثورة أنها وحدت ولأول مرة بين التيارات السلفية وجماعة الإخوان المسلمين، بعد عهود طويلة من الصراع المكتوم، والجفاء المتبادل، والفتور المتعمد، بين الطرفين، فلقد اتفقت رؤية الطرفين في الموقف من الثورة ـ وذلك بعد استبعاد شذاذ السلفيين الذين كانوا يصفون حسني مبارك بأمير المؤمنين ويحرمون الخروج عليه ـ ثم اتفقت رؤية الطرفين بعد نجاح الثورة تجاه العديد من القضايا والملفات، خاصة قضية الاستفتاء على التعديلات الدستورية، والمشاركة السياسية الفعالة والتنسيق بين الطرفين في الانتخابات، وعقدت عدة لقاءات بين رموز الطرفين ساهمت في ترسيخ التحالف السياسي، وتم الاتفاق ضمنيا على كيفية التعامل وإدارة المرحلة القادمة.
هذا التحالف والتنسيق كان أكثر ما أقلق العلمانيين والليبراليين في مصر ومن ورائهم أمريكا والاتحاد الأوروبي وإسرائيل ـ خاصة بعد النجاح الساحق الذي حققه هذا التحالف في توجيه الرأي العام الشعبي والتأثير فيه، مما أضعف موقف التيار السياسي العلماني في مصر خارجيا وظهوره بصورة العاجز عن التأثير والفعالية مقارنة بالتيارات الإسلامية، مما حدا بأمريكا للتصريح على لسان وزير خارجيتها " كلينتون " في أعقاب نتيجة الاستفتاءات: أن أمريكا على وشك الاستعداد للتعامل مع الإسلام السياسي في مصر، فجن جنون العلمانيين والليبراليين في مصر، وقرروا فك عري هذا التحالف السلفي الإخواني بأي شكل.
ولأن التيار السلفي هو الأوضح والأظهر سمتاً، والأقل خبرةً سياسياً وإعلامياً واستراتيجياً، بكيفية مواجهة ألاعيب العلمانية وأخواتها، ولأن السلفيين الأكثر التزاماً وحفاظاً على تعاليم الدين، والأكثر حرصاً على السنن الظاهرة والنسخة الأصلية للإسلام، فقد شنت التيارات السياسية العلمانية هجوماً ضاريا، وبأساليب قذرة، على التيار السلفي من أجل تشويه صورة التيار الإسلامي كله، ووصم كل المنادين بتطبيق الإسلام بالتطرف والغلو والتشدد والعنف إلى آخر لائحة الاتهامات الرائجة في وسائل الإعلام هذه الأيام، وذلك للضغط على الإخوان، وإشعارهم بعظم تكلفة وجسامة تبعة بقاء تحالفهم السياسي مع السلفيين، وربما كان هذا هو لب الصراع ضد السلفيين اليوم، فالهدف الرئيسي لهذه الحملة فك هذا التحالف الكبير الذي ببقائه لن يقوم للتيارات السياسية العلمانية أي قائمة، ولن يكون لهم وجود أو تأثير على المشهد السياسي في مصر، حتى لو تأجلت الانتخابات لسنوات، فهي تيارات تحتاج لشعوب أخرى غير الشعب المصري حتى يكون لها وجود أو أثر، وقد بدأ الإخوان فعلاً في التذمر من بعض النشاطات السلفية تحت وطاة الحملات الدعائية الموجهة ضد التيار السلفي، بل شاركت بعض المواقع الإخوانية وبعض القيادات الإخوانية في هذه الحملة، في سذاجة سياسية غير معهودة على جماعة الإخوان.
محور التحجيم و الإقصاء السياسي
السياسة لعبة لها أصولها وخصوصياتها المتعارف عليها لدى المشاركين فيها، وهي أصول وضوابط في مجملها مستقاة من العلمانية الغربية، ولو فرض فيها النزاهة والحيادية وحرية الاختيار، فستكون الغلبة فيها دائما للأكثر تأثيرا في الشارع، والأكثر قدرة على التواصل والتعاطي مع الرغبات الشعبية، والتيارات السياسية العلمانية في مصر تعلم يقينا أنها تيارات منبتة، لا وجود لها على الحقيقة في الشارع، وعند المواطن العادي، وعلى الرغم من سيطرتها على المشهد الإعلامي والسياسي لعهود طويلة إلا أن هذه التيارات تعاني من ضعف شديد في الحركة والتأثير، ووجودها في الحياة السياسية المصرية أشبه ما يكون بالقطع الديكورية التي توضع في الأركان لاستكمال الصورة الجمالية فقط لا غير، لو نقلت من مكانها أو انكسرت لن يلحظ أحد غيابها ولن تؤثر علي سير الحياة اليومية.
في المقابل كانت التيارات الإسلامية من قبل ومن بعد تحظى بشعبية جارفة، وتأثير كبير، خاصة مع دخول السلفيين للمشهد السياسي بما يمثلونه من ثقل ووجود شعبي عند العامة، حتى أن آخر الاستطلاعات التي أجريت في مصر قد كشفت أن الشيخ محمد حسان الرمز السلفي الكبير، لو نزل الانتخابات سيكتسحها بكل اقتدار، وسيتغلب على الساسة الكبار والقدامى بكل سهولة، وهذا ما دفع التيارات السياسية العلمانية بالاتفاق على ضرورة دفع التيار السلفي خارج حلبة الحياة السياسية في مصر بأي صورة، فوجود مثل هذا التيار الإسلامي بشعبيته الجارفة في اللعبة السياسية حتما سيطيح بالتيارات العلمانية الهشة خارج حلبة المنافسة، والأكثر من ذلك سيعيد ترتيب أوراق وأساليب ونظم العملية السياسية برمتها في البلاد، ولن يكون للضوابط والشروط العلمانية وجود في العملية السياسية بعد ذلك في مصر، ومن ثم كان الهجوم الكاسح على التيار السلفي أما لإقصائه بالكلية من المشهد السياسي، و أما لتحجيمه وتقليل دوره وأثره في المرحلة المقبلة بحيث لا يفرض أجندته الصارمة في تطبيق المشروع الإسلامي للبلاد.
محور استلال التنازلات
كما قلنا أن اللعبة السياسية في مصر لها أصولها وضوابطها التي تعتبر علمانية في مجوعها، ودخول التيار السلفي بما يملكه من أجندة صارمة ونسخة أصلية لتطبيق الشريعة الإسلامية، كانت سيؤدي لتغيير جذري في الحياة السياسية في مصر، لذلك أيقنت التيارات السياسية العلمانية أن موقفها الضعيف وسكوتها على تنامي الدور السلفي في الحياة السياسية المصرية ستدفع ثمنه غاليا جدا، و سيلغي وجودها تقريبا، فاتبعت الأسلوب الشهير: "الهجوم خير وسيلة للدفاع"، وشنت الحملات الدعائية الكاذبة واختلقت الأباطيل والشناعات على السلفيين، من أجل رفع سقف التنازلات لدي السلفيين والإخوان على حد السواء، حتى لو كان هذا التنازل على حساب الثوابت والمبادئ، وهنا مكمن الخطر، وبداية الانهيار.
فتصريح عفوي في ساعة حبور من أحد الرموز السلفية عن أخذ الجزية من النصارى، وأن من يرفض منهم دفعها عليه الهجرة إلى كندا أو أمريكا، كان كفيلا بأن تشن ورائه حملة عنيفة، ترغم قادة الإخوان على التراجع عن رفضهم لولاية الأقباط والمرأة لرياسة الجمهورية، وترغم قادة السلفيين على القول بالمواطنة بمعناها العلماني، لا بمعناها الإسلامي الذي يتماشى مع النصوص الشرعية والسيرة النبوية، وإقدام بعض الشباب المتحمس على إحراق عدة أضرحة بسبب ما يقع عندها من المخالفات والبدع الغليظة، استتبعتها حملة طويلة عريضة من صحف التيارات السياسية العلمانية الرافضة أصلاً للممارسات الدينية بشتى صورها بما فيها البدعية منها؛ لتشويه السلفيين، وهي الحملة التي كانت على وشك الوصول لمرحلة المواجهة المسلحة بين الصوفيين والسلفيين، مما استتبعه إقدام العديد من الرموز السلفية على إنكار حرق الأضرحة وإدانة مرتكبيها، وعلى الرغم من محاولة هذه الرموز موازنة إنكارها بصورة شرعية، إلا أن المحصلة النهائية لهذه الحملات الدعائية العنيفة ضد التيار السلفي، تنازلات قد تكون غير مقبولة من جمهور المنتمين للتيار السلفي، وأيضا أدت إلي خفض سقف طموحات التيار السلفي في استلهام تجربة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحسبة بمعناها الشرعي في مصر.
والخلاصة: أننا نستطيع أن نقول أن التحرك الواسع والظهور الكبير للتيارات السلفية، والمؤتمرات الشعبية الحاشدة، كان لها أكبر الأثر في تذكية المخاوف لدي العلمانيين والأقباط في مصر، واستعجلت الصدام مع قوى كثيرة متربصة، فقد ظهر للعيان أن قوة السلفيين أكبر وأكثر تأثيراً مما يظن الكثيرون، وأن الرقم السلفي في المعادلة السياسية سيصعب تجاوزه أو إهماله، وأن هذا التيار المؤثر لن يمكن السيطرة عليه وتحجيمه إلا عبر الحملات الدعائية العنيفة، وهو ما بدأت ثماره بالفعل في الظهور في الأيام الماضية، وإذا لم يتدارك التيار السلفي أوضاعه، ويرشد تحركاته، ويضبط أداء ه السياسي وخطابه الإعلامي في الأيام المقبلة، ستكون الهجمة أشرس والخسارة أكبر.
بدايةً لابد أن أتفهم أن ثمة بعداً فكرياً وأيدلوجياً، عند كل الأطراف المشتركة في الهجوم الشديد والجائر على التيارات السلفية في مصر اليوم، وهو الهجوم الذي جاء على خلفية التحركات والنشاطات الواسعة التي قامت بها مختلف الفصائل السلفية، والتي جاءت أثر السقوط المدوي للنظام الديكتاتوري الحاكم في مصر في فبراير الماضي، ومن باب الإنصاف أن هذه التحركات والنشاطات كانت في مجملها غير راشدة، و تحمل قدراً لا بأس به من عدم النضج السياسي، فكثرة المؤتمرات والتي وصلت إلى قرابة المائة مؤتمر حتى كتابة هذه السطور، وطافت جميع المحافظات والمدن المصرية الكبيرة تقريباً، كانت كفيلة لبث الرعب والفزع في أنصار العلمانية والليبرالية ليس في مصر وحدها، ولكن في المنطقة بأسرها، ثم جاءت نتيجة الاستفتاءات على التعديلات الدستورية؛ لتمثل لطمة قوية للعلمانيين والتغريبيين في مصر، بعد أن تبنى التيار الإسلامي عموماً، والسلفي خصوصاً الموافقة على التعديلات، مما أفقد العلمانيين صوابهم، وكشف لهم عن الحجم الحقيقي للتأثير السلفي، وما يستطيع أن يحدثه من فارق في مجرى الحياة السياسية، ومن ثم انطلقت حملات الاستعداء والاستنفار والتحشيد ضد التيارات السلفية.
واختصار لبّ هذه الحملة الشرسة ضد التيار السلفي في مصر في مسألة عداوة الدين، واختزاله في بعده العقدي فقط، يورثنا كثيراً من الإشكاليات، ويؤكد على قول من يتهم السلفيين بالسذاجة السياسية وعدم الأهلية لأمثال هذه الأنشطة، كما أنه يشوش بشكل ملحوظ على الأداء السياسي للتيار السلفي بما يمثله من ثقل في الشارع المصري، وذلك على فرض صحة التقديرات لعدد المنتمين للتيار السلفي في مصر (4، 5 مليون سلفي)، والحق أن الهجوم على السلفية في مصر هذه الأيام يحتاج لتفسير سياسي، وقراءة متأنية، تتجرد من أسر التفسير العقدي لكل الأحداث المتشابكة في المشهد السياسي في البلاد، خاصة في موسم التحالفات والانقلابات والتكتيكات المتبادلة بين أطراف العملية السياسية المصرية، ونستطيع أن نقول أن القراءة السياسية للحملة الشرسة على السلفية الآن، تدور على عدة مسارات ومحاور، ولأسباب ودوافع معينة منها:
محور الاستدراج والتخويف
المتابع للمشهد السياسي والإعلامي في مصر في أعقاب نجاح الثورة يلاحظ تسارعاً كبيراً في الحركة والأداء الإعلامي لدي التيارات الإسلامية عموماً، والسلفي خصوصاً، وهذا التسارع كان طبيعياً نتيجة عقود من التحييد والتهميش والإقصاء العنيف من جانب حكومة الديكتاتور مبارك، وفي ظل أجواء الحرية الجديدة نشطت وتحركت كافة التيارات السياسية والاجتماعية وقوي المعارضة، وبالتالي لم يلحظ أحد أن ثمة استدراج خفي يجري التخطيط له على نار هادئة للتيار السلفي، حيث أخذت وسائل الإعلام تغطية مؤتمرات التيار السلفي الجماهيرية بدقة، وتتابع الخطاب الدعوي والسياسي لهذه المؤتمرات بعناية فائقة، ونقل أخباره أولا بأول، وأخذت في إفساح المجال لكل الرموز المحسوبة على التيار السلفي بمعناه الواسع، فعبود الزمر مثلا بما يمثله من خلفية تاريخية لأحداث غيرت مسار المشهد السياسي المصري، وأثرت بشدة في ذاكرة ووجدان المصريين، يتم إبراز خبر الإفراج عنه، وتغطيته إعلامياً بصورة واسعة، وتسابقت وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية في استضافته، وأفسح المجال له بكل حرية ليتكلم بكل ما يعن له من أفكار ورؤى وأطروحات، وكذلك الحال مع ابن عمه طارق الزمر، وبالتوازي مع الإبراز الإعلامي لحركة ورموز السلفية، كانت ثمة نشاطات واسعة تدعو المتبصرين للتدبر فيها والتروي في الحكم عليها، ومعرفة أسرارها وأسبابها، فقد أخذ شيوخ السلفية في غزو الجامعات المصرية من أقصاها لأدناها، يدخلون بعلم إدارة الجامعة وموافقتها، ويلقون محاضرات حاشدة، يحضرها آلاف الطلبة، مع العلم أن الواحد من هؤلاء الفضلاء من قبل كان محاصراً ومضيقاً عليه، ولا يستطيع أن ينتقل خارج بلده التي يقيم بها إلا بعد عناء كبير، وموافقة من الجهات الأمنية.
هذه النشاطات الواسعة والتحركات الكثيرة للتيار السلفي، والتي تلقى كل حرية وترحيب، وموافقة وتيسير من كافة الجهات المسئولة والمعنية، حتى أنه لا يكاد أن يمر يوم في أيام الأسبوع منذ سقوط مبارك، إلا وللسلفيين فيه مؤتمر منعقد في مدينة من المدن، مثلت فرصة ذهبية لأعداء التيار الإسلامي عامة والسلفي خاصة، للتخويف والتشويه لهذا التيار، واتهامه بالاستيلاء على المشهد الإعلامي والسياسي في مصر، والقفز على أكتاف الثورة، من كثرة تحركاته ومؤتمراته، وبدأ الناس يتساءلون: أين كان هؤلاء من قبل؟!، وأين دورهم السياسي والإعلامي من قبل؟!، وبدأت حملات التخويف بالتعرض للخطاب السلفي الدعوي والاجتماعي، وتشويهه بأحط وأقذر الوسائل والأكاذيب، وتوالت الحملات الدعائية مدفوعة الأجر من صحف ومواقع لها توجهاتها المعروفة، ومعلوم للجميع من يقف ورائها، فجريدة المصري اليوم واليوم السابع وهما من أشد الصحف مهاجمة للتيار السلفي في مصر الآن، ملك للملياردير "نجيب ساويرس "، وجريدة الدستور ملك رجل الأعمال "رضا إدوار"، وكذلك المواقع الإلكترونية التابعة لهذه الصحف، وأخذت حملات التخويف تزداد باستنطاق المشايخ ببعض الفتاوى والآراء التي تم توظيفها واستغلالها في حملة التخويف من السلفيين في مصر، بل تم نسخ شرائط صوتية لمحاضرات قديمة لهؤلاء المشايخ والرموز، وتم عمل مونتاج لأقوالهم وآرائهم، و تم ابتسارها وتقطيعها لخدمة الهدف التحريضي والتشويهي للتيار السلفي.
محور فك التحالف السلفي الإخواني
أصدق وصف للحالة المصرية بكل تفريعاتها بعد الثورة، أنها مرحلة ما بعد الجماعات، أو مرحلة التئام الصفوف وتوحيد الراية، فإن من أعظم نتائج الثورة أنها وحدت ولأول مرة بين التيارات السلفية وجماعة الإخوان المسلمين، بعد عهود طويلة من الصراع المكتوم، والجفاء المتبادل، والفتور المتعمد، بين الطرفين، فلقد اتفقت رؤية الطرفين في الموقف من الثورة ـ وذلك بعد استبعاد شذاذ السلفيين الذين كانوا يصفون حسني مبارك بأمير المؤمنين ويحرمون الخروج عليه ـ ثم اتفقت رؤية الطرفين بعد نجاح الثورة تجاه العديد من القضايا والملفات، خاصة قضية الاستفتاء على التعديلات الدستورية، والمشاركة السياسية الفعالة والتنسيق بين الطرفين في الانتخابات، وعقدت عدة لقاءات بين رموز الطرفين ساهمت في ترسيخ التحالف السياسي، وتم الاتفاق ضمنيا على كيفية التعامل وإدارة المرحلة القادمة.
هذا التحالف والتنسيق كان أكثر ما أقلق العلمانيين والليبراليين في مصر ومن ورائهم أمريكا والاتحاد الأوروبي وإسرائيل ـ خاصة بعد النجاح الساحق الذي حققه هذا التحالف في توجيه الرأي العام الشعبي والتأثير فيه، مما أضعف موقف التيار السياسي العلماني في مصر خارجيا وظهوره بصورة العاجز عن التأثير والفعالية مقارنة بالتيارات الإسلامية، مما حدا بأمريكا للتصريح على لسان وزير خارجيتها " كلينتون " في أعقاب نتيجة الاستفتاءات: أن أمريكا على وشك الاستعداد للتعامل مع الإسلام السياسي في مصر، فجن جنون العلمانيين والليبراليين في مصر، وقرروا فك عري هذا التحالف السلفي الإخواني بأي شكل.
ولأن التيار السلفي هو الأوضح والأظهر سمتاً، والأقل خبرةً سياسياً وإعلامياً واستراتيجياً، بكيفية مواجهة ألاعيب العلمانية وأخواتها، ولأن السلفيين الأكثر التزاماً وحفاظاً على تعاليم الدين، والأكثر حرصاً على السنن الظاهرة والنسخة الأصلية للإسلام، فقد شنت التيارات السياسية العلمانية هجوماً ضاريا، وبأساليب قذرة، على التيار السلفي من أجل تشويه صورة التيار الإسلامي كله، ووصم كل المنادين بتطبيق الإسلام بالتطرف والغلو والتشدد والعنف إلى آخر لائحة الاتهامات الرائجة في وسائل الإعلام هذه الأيام، وذلك للضغط على الإخوان، وإشعارهم بعظم تكلفة وجسامة تبعة بقاء تحالفهم السياسي مع السلفيين، وربما كان هذا هو لب الصراع ضد السلفيين اليوم، فالهدف الرئيسي لهذه الحملة فك هذا التحالف الكبير الذي ببقائه لن يقوم للتيارات السياسية العلمانية أي قائمة، ولن يكون لهم وجود أو تأثير على المشهد السياسي في مصر، حتى لو تأجلت الانتخابات لسنوات، فهي تيارات تحتاج لشعوب أخرى غير الشعب المصري حتى يكون لها وجود أو أثر، وقد بدأ الإخوان فعلاً في التذمر من بعض النشاطات السلفية تحت وطاة الحملات الدعائية الموجهة ضد التيار السلفي، بل شاركت بعض المواقع الإخوانية وبعض القيادات الإخوانية في هذه الحملة، في سذاجة سياسية غير معهودة على جماعة الإخوان.
محور التحجيم و الإقصاء السياسي
السياسة لعبة لها أصولها وخصوصياتها المتعارف عليها لدى المشاركين فيها، وهي أصول وضوابط في مجملها مستقاة من العلمانية الغربية، ولو فرض فيها النزاهة والحيادية وحرية الاختيار، فستكون الغلبة فيها دائما للأكثر تأثيرا في الشارع، والأكثر قدرة على التواصل والتعاطي مع الرغبات الشعبية، والتيارات السياسية العلمانية في مصر تعلم يقينا أنها تيارات منبتة، لا وجود لها على الحقيقة في الشارع، وعند المواطن العادي، وعلى الرغم من سيطرتها على المشهد الإعلامي والسياسي لعهود طويلة إلا أن هذه التيارات تعاني من ضعف شديد في الحركة والتأثير، ووجودها في الحياة السياسية المصرية أشبه ما يكون بالقطع الديكورية التي توضع في الأركان لاستكمال الصورة الجمالية فقط لا غير، لو نقلت من مكانها أو انكسرت لن يلحظ أحد غيابها ولن تؤثر علي سير الحياة اليومية.
في المقابل كانت التيارات الإسلامية من قبل ومن بعد تحظى بشعبية جارفة، وتأثير كبير، خاصة مع دخول السلفيين للمشهد السياسي بما يمثلونه من ثقل ووجود شعبي عند العامة، حتى أن آخر الاستطلاعات التي أجريت في مصر قد كشفت أن الشيخ محمد حسان الرمز السلفي الكبير، لو نزل الانتخابات سيكتسحها بكل اقتدار، وسيتغلب على الساسة الكبار والقدامى بكل سهولة، وهذا ما دفع التيارات السياسية العلمانية بالاتفاق على ضرورة دفع التيار السلفي خارج حلبة الحياة السياسية في مصر بأي صورة، فوجود مثل هذا التيار الإسلامي بشعبيته الجارفة في اللعبة السياسية حتما سيطيح بالتيارات العلمانية الهشة خارج حلبة المنافسة، والأكثر من ذلك سيعيد ترتيب أوراق وأساليب ونظم العملية السياسية برمتها في البلاد، ولن يكون للضوابط والشروط العلمانية وجود في العملية السياسية بعد ذلك في مصر، ومن ثم كان الهجوم الكاسح على التيار السلفي أما لإقصائه بالكلية من المشهد السياسي، و أما لتحجيمه وتقليل دوره وأثره في المرحلة المقبلة بحيث لا يفرض أجندته الصارمة في تطبيق المشروع الإسلامي للبلاد.
محور استلال التنازلات
كما قلنا أن اللعبة السياسية في مصر لها أصولها وضوابطها التي تعتبر علمانية في مجوعها، ودخول التيار السلفي بما يملكه من أجندة صارمة ونسخة أصلية لتطبيق الشريعة الإسلامية، كانت سيؤدي لتغيير جذري في الحياة السياسية في مصر، لذلك أيقنت التيارات السياسية العلمانية أن موقفها الضعيف وسكوتها على تنامي الدور السلفي في الحياة السياسية المصرية ستدفع ثمنه غاليا جدا، و سيلغي وجودها تقريبا، فاتبعت الأسلوب الشهير: "الهجوم خير وسيلة للدفاع"، وشنت الحملات الدعائية الكاذبة واختلقت الأباطيل والشناعات على السلفيين، من أجل رفع سقف التنازلات لدي السلفيين والإخوان على حد السواء، حتى لو كان هذا التنازل على حساب الثوابت والمبادئ، وهنا مكمن الخطر، وبداية الانهيار.
فتصريح عفوي في ساعة حبور من أحد الرموز السلفية عن أخذ الجزية من النصارى، وأن من يرفض منهم دفعها عليه الهجرة إلى كندا أو أمريكا، كان كفيلا بأن تشن ورائه حملة عنيفة، ترغم قادة الإخوان على التراجع عن رفضهم لولاية الأقباط والمرأة لرياسة الجمهورية، وترغم قادة السلفيين على القول بالمواطنة بمعناها العلماني، لا بمعناها الإسلامي الذي يتماشى مع النصوص الشرعية والسيرة النبوية، وإقدام بعض الشباب المتحمس على إحراق عدة أضرحة بسبب ما يقع عندها من المخالفات والبدع الغليظة، استتبعتها حملة طويلة عريضة من صحف التيارات السياسية العلمانية الرافضة أصلاً للممارسات الدينية بشتى صورها بما فيها البدعية منها؛ لتشويه السلفيين، وهي الحملة التي كانت على وشك الوصول لمرحلة المواجهة المسلحة بين الصوفيين والسلفيين، مما استتبعه إقدام العديد من الرموز السلفية على إنكار حرق الأضرحة وإدانة مرتكبيها، وعلى الرغم من محاولة هذه الرموز موازنة إنكارها بصورة شرعية، إلا أن المحصلة النهائية لهذه الحملات الدعائية العنيفة ضد التيار السلفي، تنازلات قد تكون غير مقبولة من جمهور المنتمين للتيار السلفي، وأيضا أدت إلي خفض سقف طموحات التيار السلفي في استلهام تجربة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحسبة بمعناها الشرعي في مصر.
والخلاصة: أننا نستطيع أن نقول أن التحرك الواسع والظهور الكبير للتيارات السلفية، والمؤتمرات الشعبية الحاشدة، كان لها أكبر الأثر في تذكية المخاوف لدي العلمانيين والأقباط في مصر، واستعجلت الصدام مع قوى كثيرة متربصة، فقد ظهر للعيان أن قوة السلفيين أكبر وأكثر تأثيراً مما يظن الكثيرون، وأن الرقم السلفي في المعادلة السياسية سيصعب تجاوزه أو إهماله، وأن هذا التيار المؤثر لن يمكن السيطرة عليه وتحجيمه إلا عبر الحملات الدعائية العنيفة، وهو ما بدأت ثماره بالفعل في الظهور في الأيام الماضية، وإذا لم يتدارك التيار السلفي أوضاعه، ويرشد تحركاته، ويضبط أداء ه السياسي وخطابه الإعلامي في الأيام المقبلة، ستكون الهجمة أشرس والخسارة أكبر.