بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
حكم الهجر وضوابطه الشرعية
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، الهادي إلى سواء السبيل، والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:-
فإنّ الشّريعة الإسلامية قد أمرت المسلمين بأن يحققوا الأخوة بينهم، وأن يجتنبوا التدابر والتقاطع وهجْرَ بعضهم بعضاً فوق ثلاث، وغير ذلك ما هو منافٍ للمحبة والألفة بين المؤمنين، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات:10]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحلّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث أيام" (1).
وفي هذا البحث المتواضع، والذي هو بعنوان: حكم الهجر وضوابطه الشرعية، أردت بيان حكم الهجر بين المسلمين، هل هو منهي عنه على الإطلاق؟ أم أنَّ حكمه يختلف بحسب حال المهجور؟ وما هي الضوابط الشرعية التي يلزم مراعاتها عند الهجر، إن قلنا بجوازه؟
وسيكون السير في هذا البحث على النحو التالي:
1. تعريف الهجر في اللغة والشرع.
2. الأحاديث الواردة في عدم جواز الهجر وبيان عقوبته.
3. أنواع الهجر.
4. حكم الهجر.
5. الضوابط الشرعية في الهجر.
6. الخاتمة.
والله أسال التوفيق والسداد، والإخلاص في القول والعمل، وأن يتقبل مني هذا الجهد المتواضع، إنه أكرم من سُئِل.
فأقول مستعيناً بالله وهو حسبي ونعم الوكيل:
تعريف الهجر.
أ: تعريف الهجر في اللغة: هو عبارة عن مفارقة الإنسان غيره.
قال ابن منظور: « الهَجْرُ: ضد الوصل، هَجَره يَهْجُرُه هَجْراً وهِجْراناً: صَرَمَه، وهما يَهْتَجِرانِ ويَتَهاجَرانِ،... الهَجْر ضدَّ الوصلِ يعني فيما يكون بين المسلمين من عَتْبٍ ومَوْجِدَةٍ أَو تقصير يقع في حقوق العِشْرَة والصُّحْبَةِ دون ما كان من ذلك في جانب الدِّين» (2).
وقال المناي: «الهجر والهجران: مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن، أو باللسان، أو بالقلب، والهجرة والمهاجرة في الأصل: مفارقة الغير ومتاركته» (3).
ب: تعريف الهجر في الشرع:
الهجر في الشرع: هو مقاطعة الإنسان غيره (4).
وقال ابن رجب الحنبلي: « والهجران: مأخوذ من أن يولّي الرجل صاحبه دبره ويعرض عنه بوجهه، وهو التقاطع » (5).
ومن مفردات الهجر: عدم المجالسة، والمكالمة، وبسط الوجه للمهجور (6).
الأحاديث الواردة في عدم جواز الهجر وبيان عقوبته.
من الأحاديث الواردة في الهجر ما يلي:
1. حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث أيام" (7).
2. حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" (.
3. حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا أنظروا هذين حتى يصطلحا أنظروا هذين حتى يصطلحا" (9)، ومن طريق آخر عند مسلم:" إلا المتهاجرين".
4. حديث أبي هريرة - رضي الله عنه-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يحل لمؤمنٍ أن يهجر مؤمناً فوق ثلاث، فإن مرّت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم" (10).
5. حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار" (11).
6. حديث هشام بن عامر- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يحل لمسلمٍ أن يهجر مسلماً فوق ثلاث ليال، فان كان تصادرا فوق ثلاث، فإنهما ناكبان عن الحق ما داما على صرامهما، وأولهما فيا فسبقه بالفيء كفارته، فان سلم عليه فلم يرد عليه ورد عليه سلامه ردت عليه الملائكة ورد على الآخر الشيطان، فان ماتا على صرامهما لم يجتمعا في الجنة أبدا" (12).
7. حديث عائشة- رضي الله عنها- أنَّ عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة والله لتنتهين عائشة أو لأحجرَّن عليها، فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله علي نذر أن لا أكلّم ابن الزبير أبداً، فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة، فقالت: لا والله لا أشفع فيه أبدا ولا أتحنث إلى نذري، فلما طال ذلك على ابن الزبير، كلَّم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وهما من بني زهرة، وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة، فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي، فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلنا؟ قالت: نعم ادخلوا كلكم ولا تعلم أنّ معهما ابن الزبير، فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلمته وقبلت منه، ويقولان: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجرة فإنه:" لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال". فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفقت تذكّرهما وتبكي وتقول: إني نذرت والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خمارها (13).
فهذه الأحاديث المتقدمة تفيد أن الشَّرع لم يرخِّص الهجر بين المسلمين إلا بما دون ثلاث ليال، وما زاد على ذلك فلا يجوز، قال المناوي: « ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام بغير عذر شرعي» (14).
أنواع الهجر:
للهجر نوعان (15) وهما:
1. الهجر ديانة، أي الهجر لحق الله تعالى، وذلك في هجر السيئة، وهجر فاعلها. وقد ورد في ذلك قوله تعالى: ﴿ والرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر:5]، وقوله تعالى: ﴿واهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل:10]. وقوله تعالى: ﴿وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِين َ﴾ [الأنعام: 68 ]. وقد نقل البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تفسير هذه الآية: « دخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة» (16). وكذلك قوله تعالى: ﴿ وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا ويُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ﴾[ النساء: 140].
والهجر لحق الله تعالى يكون بترك المنكرات، وهجر من يظهر المنكرات عقوبةً له، وقد نصّ على ذلك ابن تيمية، فقال: « الهجر الشرعي نوعان: أحدهما: بمعنى الترك للمنكرات، والثاني: بمعنى العقوبة عليها فالأول هو المذكور في قوله تعالى: ﴿وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِين َ﴾ [الأنعام: 68 ]... فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم، وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم وأمثال ذلك، بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره، ولهذا يقال حاضر المنكر كفاعله... النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها» (17).
2. الهجر لاستصلاح أمر دنيوي، أي الهجر لحق العبد، وفيه جاءت أحاديث الهجر بما دون ثلاث ليال، وقد تقدم ذكرها.
حكم الهجر.
الأصل في هجر المسلم أن يكون لتحقيق مصلحةٍ دينية، كما قال المناوي: «ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه في الإسلام فوق ثلاث من الأيام، إلا لمصلحة دينية، كما دلت عليه أخبار وآثار» (18)، وهذا هو الأصل، ولكن إذا كان الهجر لأمر دنيوي، فلا يخلو من أن يكون في الثلاثة الأيام أو أن يزيد عليها.
• فإن كان الهجر دون ثلاث ليال، فهذا جائز، وقد دلَّ عليه مفهوم الأحاديث السابقة، وكذلك نصوص أهل العلم المتواترة، ومن ذلك ما قاله ابن حجر: « فالمعتمد أنّ المرخّص فيه ثلاثة أيام بلياليها، فحيث أطلقت الليالي أريد بأيامها، وحيث أطلقت الأيام أريد بلياليها، ويكون الاعتبار مضى ثلاثة أيام بلياليها ملفقة إذا ابتدأت مثلا من الظهر يوم السبت كان آخرها الظهر يوم الثلاثاء ويحتمل أن يلغى الكسر ويكون أول العدد من ابتداء اليوم أو الليلة والأول أحوط» (19).
وقال النووي: « قال العلماء: في هذا الحديث تحريم الهجر بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال وإباحتها في الثلاث، الأول: بنص الحديث، والثاني: بمفهومه، قالوا: وإنما عفي عنها في الثلاث؛ لأن الآدمي مجبولٌ على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك، فعفي عن الهجرة في الثلاثة؛ ليذهب ذلك العارض. وقيل: إن الحديث لا يقتضي إباحة الهجرة في الثلاثة، وهذا على مذهب من يقول لا يحتج بالمفهوم» (20). والأول أولى.
وقال ابن الأمير الصنعاني: «ودلّ مفهومه على جوازه ثلاثة أيام، وحكمة جواز ذلك هذه المدة أن الإنسان مجبولٌ على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك، فعفي له هجر أخيه ثلاثة أيام؛ ليذهب العارض تخفيفاً على الإنسان ودفعاً للإضرار به، ففي اليوم الأول: يسكن غضبه، وفي الثاني: يراجع نفسه، وفي الثالث: يعتذر، وما زاد على ذلك كان قطعاً لحقوق الأخوّة» (21).
• وإن كان الهجر بين المسلمين فوق ثلاث بدون مبرِّرٍ شرعيّ- كما سيأتي في الضوابط الشرعية- فهو حرامٌ؛ لما دلّ عليه منطوق الأحاديث المتقدمة، ومن هذه الأحاديث:"ولا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث أيام" (22). وفي بعض ما تقدم من الأحاديث الوعيد بالنار لمن زاد في هجر أخيه المسلم على الثلاث، كحديث:"... فمن هجر فوق ثلاثٍ فمات دخل النار" (23).
ومما يؤيد كذلك تحريم الهجر للمسلم فوق ثلاث بدون عذر شرعي، ما نقله ابن عبد البر من إجماع العلماء على عدم جواز الهجر فوق ثلاث، إلا لعذر شرعي كالإضرار بالدين، فقال ما نصه: « وأجمع العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته ما يفسد عليه دينه أو يولد به على نفسه مضرة في دينه أو دنياه فإن كان ذلك فقد رخص له في مجانبته وبعده ورب صرم جميل خير من مخالطة مؤذية» (24).
وقال الشيرازي: «لا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» (25).
وأما هجر عائشة لابن الزبير أكثر من ثلاثة أيام فقد ناقش الطيبي الجواب عن هجر عائشة لابن الزبير، فقال: « فإن قلت: لم هجرت عائشة بن الزبير أكثر من ثلاثة أيام؟ قلت: قد أجاب الطبري بأن المحرَّم إنما هو ترك السلام فقط، وأن الذي صدر من عائشة ليس فيه أنها امتنعت من السلام على بن الزبير ولا من ردِّ السلام عليه لـمّا بدأها بالسلام، قال وكانت عائشة لا تأذن لأحدٍ من الرجال أن يدخل عليها إلا بإذن، ومن دخل كان بينه وبينها حجاب إلا إن كان ذا محرمٍ منها، ومع ذلك لا يدخل عليها حجابها إلا بإذنها، فكانت في تلك المدة منعت بن الزبير من الدخول عليها كذا قال، قال الحافظ في الفتح: ولا يخفى ضعف المأخذ الذي سلكه من أوجه لا فائدة للإطالة بها، والصواب ما أجاب به غيره: أن عائشة رأت أنَّ بن الزبير ارتكب بما قال أمراً عظيما وهو قوله: لأحجرن عليها، فإنّ فيه تنقيصاً لقدرها» (26).
• وإن كان الهجر فوق ثلاث مع وجود عذرٍ شرعي مع مراعاة الضوابط التي سيأتي ذكرها، فقد أجازه أهل العلم، ومن الأدلة على جوازه حديث عبد الله بن مغفل- رضي اله عنه- أنه رأى رجلاً يخذف، فقال له: لا تخذف" فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف، أو كان يكره الخذف وقال: إنه لا يصاد به صيد، ولا ينكأ به عدو، ولكنها قد تكسر السن وتفقأ العين. ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال له: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخذف أو كره الخذف وأنت تخذف، لا أكلمك كذا وكذا" (27).
وقد وردت أقوال كثيرة للصحابة والتابعين ومن بعدهم في عدم مجالسة أهل الأهواء نظراً لانتفاء المصلحة من مجالستهم، وعِظم الضّرر الذي قد يحصل منهم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما:" لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب" (28).
وقال أبو قلابة:" لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبِّسوا عليكم في الدّين بعض ما لُبّس عليهم" (29).
وقال الحسن البصري:" لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم" (30).
وقال الشاطبي في معرض ذكره لأحكام أهل البدع: « الهجران وترك الكلام والسلام، حسبما تقدم عن جملةٍ من السلف في هجرانهم لمن تلبَّس ببدعة، وما جاء عن عمر - رضي الله عنه- من قصة صبيغ العراقي» (31).
وقال ابن تيميه: « فالمقصود بهذا أن يهجر المسلم السيئات ويهجر قرناء السوء الذين تضر صحبتهم، إلا لحاجةٍ، أو مصلحةٍ راجحة » (32).
وقال الغزالي: « الهجر فوق ثلاث جائز في موضعين:
أحدهما: أن يرى فيه إصلاحاً للمهجور في الزيادة.
الثاني: أن يرى لنفسه سلامة فيه» (33).
وقد بوَّبَ النووي فقال: باب تحريم الهجران بين المسلمين فوق ثلاثة أيام، إلا لبدعةٍ في المهجور أو تظاهرٍ بفسقٍ أو نحو ذلك (34).
وقال ابن رجب الحنبلي، مبينا جواز الزيادة في الهجر عن ثلاثة أيام في الهجر لأجل الدين، ما نصُّه: « فأما لأجل الدين فتجوز الزيادة على الثلاثة، نص عليه الإمام أحمد واستدل بقصة الثلاثة الذين خلفوا وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهجرانهم، لما خاف منهم النفاق وأباح هجران أهل البدع المغلظة والدعاة إلى الأهواء» (35).
بم يزول الهجر؟
نصَّت الأحاديث على أنّ الهجر يزول بالسلام ولا خلاف في هذا، قال ابن الأمير الصنعاني: «وفيه دلالة على زوال الهجر له بردّ السلام، وإليه ذهب الجمهور ومالك والشافعي... وقيل: ينظر إلى حال المهجور: فإن كان خطابه بما زاد على السلام عند اللقاء مما تطيب به نفسه ويزيل علّة الهجر كان من تمام الوصل وترك الهجر، وإن كان لا يحتاج إلى ذلك كفي السلام» (36).
وليس المقصود أن الهجر لا يزول إلا بالسلام فقط، بل قد يزول بغير السلام من المكاتبة والمراسلة والاتصال بكل الوسائل الحديثة؛ لأن هذا مما يزيل ما قطعه الهجر من الوصل، وممن قال بهذا من الفقهاء الشيرازي حيث قال: «وإن كاتبه أو راسله ففيه وجهان: أحدهما لا يخرج من مأثم الهجران؛ لأن الهجران ترك الكلام فلا يزول إلا بالكلام. والثاني: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة: أنه يخرج من مأثم الهجران؛ لأن القصد بالكلام إزالة ما بينهما من الوحشة وذلك يزول بالمكاتبة والمراسلة» (37).
وقد نقل النووي خلاف أصحاب المذهب في هذا، ورجح أن الهجر قد يزول بالمكاتبة والمراسلة، فقال: «قال أصحابنا: ولو كاتبه أو راسله عند غيبته عنه هل يزول إثم الهجرة وفيه وجهان: أحدهما: لا يزول؛ لأنه لم يكلمه، وأصحهما: يزول لزوال الوحشة» (38).
الضوابط الشرعية للهجر (39):
إذا زاد هجر المسلم عن ثلاثة أيام بغير سبب شرعي فهو منهيٌ عنه في الإسلام، وله أضرار سلبية على الفرد والمجتمع، والذي يدفع إلى الهجر بدون مبرر شرعي هو اتباع أهواء النفوس، واتباع وساوس الشيطان الذي يغوي بها أتباعه حتى يسوقهم إلى التنافر والتقاطع، ويجر إلى البغضاء والعداء بين المسلمين، لكن هنالك ضوابط شرعية ذكرها العلماء لجواز هجر المسلم فوق ثلاث، وهي ضوابط دقيقة يحتاج إلى التنبه الشديد لها، فهي ضوابط تجعل الهجر بعيداً عن غلوّ الغالين وتراخي الجافين، حيث انقسم الناس قديماً وحديثا إلى ثلاثة أقسام: طرفان ووسط، فقسم غالى في تطبيق أحكام الهجر من غير فقهٍ ونظرٍ إلى المصالح والمفاسد، وقسم تجافى عن العمل بهذه العقوبة الشرعية في كل الأحوال، وقسم ثالث وهم الوسط أخذوا بهذه العقوبة لكن بضوابطها الشرعية.
ومن هذه الضوابط الشرعية لهجر المسلم فوق ثلاثٍ، ما يلي:
1. مراقبة الله تعالى في الهجر، فهو الذي يعلم السر وأخفى. قال تقي الدين أبي بكر بن محمد الشافعي:« وهجران المسلم حرام فوق ثلاثة أيام، وهذا إذا كان الهجر لحظوظ النفس، وتعقُّبات أهل الدنيا » (40).
2. وجود سبب الهجر وانتفاء المانع، فيجوز هجر من يظهر المنكرات وهجر صاحب البدعة كذلك، والهجر في حق صاحب البدعة يعتبر عقوبة له، والشرع قد أجاز ذلك لتحقيق المصالح ودفع المفاسد، قال عبد الرحمن بن محمد البغدادي المالكي: «ولا يهجر مسلم مسلما فوق ثلاثٍ، إلا لبدعة» (41). وقال تقي الدين أبي بكر بن محمد الشافعي: « فإن كان عذرٌ بأن كان المهجور مذموم الحال، لبدعةٍ، أو فسقٍ، أو نحوهما، أو كان فيه صلاحٌ لدين الهاجر أو المهجور، فلا يحرم، وعلى هذا يحمل ما ثبت من هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه، ونهيه عليه الصلاة والسلام الصحابة عن كلامهم، وكذا ما جاء من هجران السلف بعضهم بعضا» (42).
إلا أنّ هذه العقوبة، وهي الهجر فوق ثلاث، لا تحلّ إلا بتحقق سببها الموجب لإيقاعها، وإلا أصبحت عدواناً وظلماً، والسبب الموجب لهجر المبتدع ما يلي:
أ- التأكد من وجود البدعة، فلا يكتفى بمجرد الشائعات، بل لابد من التأكد بسماع قوله أو رؤية فعله أو كتابته لاسيما في زماننا هذا الذي قلَّ فيه الورع، وندرت فيه الثقة، وكثر فيه التنافس وسهل فيه الرمي بالابتداع.
ب- أن تكون البدعة مما اتفق عليها، فلا يهجر في المسائل التي اختلفت آراء العلماء فيها بين البدعية وعدمها، ولا التي قد يشكل على العالم دليلها ومأخذها، ولا مما يعدُّ من مسائل الاجتهاد لمن توفرت فيه شروط الاجتهاد.
ج- ولا يكفي النظر إلى وجود سبب الهجر، بل لا بد من تحقق ارتفاع المانع عن المبتدع وذلك ببلوغ الحجة وفهمه لها حتى يزول مانع الجهل، ويرتفع الاشتباه الذي يكون به التأول، وهذا يحتاج إلى حكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ، ومجادلةٍ بالتي هي أحسن.
3. ومن الضوابط الشرعية للهجر، أن يكون الهجر محققاً للغايات الشرعية، وهي حفظ الشريعة، والتنفير من البدعة، وزجر المبتدع، وتحذير الناس من البدعة، فإن كان الهجر محققاً هذه المقاصد فهو هجر شرعي، وإن لم يحققها، فالتأليف أنفع من الهجر، وتحقيق الهجر لهذه الغايات يختلف باختلاف الهاجر والمهجور من حيث القوة والضعف والقلة والكثرة، وباختلاف انتشار البدعة من عدم انتشارها، وتحقيق المصلحة من عدمها، وفي ذلك يقول ابن تيمية: « وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فان المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فان كان المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضى هجره إلى ضعف الشر وخفيته، كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ولهذا كان النبي يتألف قوما ويهجر آخرين» (43).
4. ومن ضوابط الهجر مراعات المصلحة والمفسدة المترتبة على الهجر؛ لأن الشريعة جاءت كلها لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، فإذا تعارضت المصالح والمفاسد وجب ترجيح الراجح منهما، وإذا تزاحمت المصالح فلابد من تحقيق أعظم المصلحتين، وتفويت أدناهما، وإذا تزاحمت المفاسد فلابد من دفع أعظم المفسدتين، والأخذ بأدناهما، وأحوال الهجر لا تخلو عن ثلاث حالات:
أ- إما أن تترجح مصلحة الهجر فيكون مطلوباً. .
ب- وإما أن تترجح مفسدة الهجر فيكون منهيا عنه.
ج- وإما أن لا تترجح هذه ولا هذه، فالأقرب عدم الهجر، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:" ولا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث أيام" (44).
ومن التطبيقات لهذه القاعدة ما رواه ابن القيم عن شيخه ابن تيمية في شأن التّتار الذين مرَّ بهم وكانوا يشربون الخمر، فنهى عن الإنكار عليهم، وذلك لما يترتّب على تركهم شرب الخمر من مفاسد هي أعظم من شربهم الخمر، فقال: « إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم » (45).
وبناء على ذلك: فهجر صاحب المعصية والبدعة، إنما يكون بحسب المصلحة، إذ قد تكون المصلحة في مخالطته ونصحه والاستمرار معه؛ وذلك لأن كثيراً من أهل المعاصي لا يزيدهم الهجر غالباً إلاّ مكابرة وتمادياً في معصيتهم، فلا يكون في هجرهم فائدة لهم ولا لغيرهم، وقد تكون المصلحة في هجره مما يضطره للعودة لجادة الصواب، إذ الهجر دواء يستعمل حيث كان فيه الشفاء، وعند عدمه فلا.
5. ومن ضوابط الهجر كذلك: مراعاة حال المبتدع من حيث دعوته إلى بدعته وعدمها، ومن حيث إظهارها أو الاستتار بها، ومن حيث الجهل والتقليد، والإصرار وعدمه، وذلك لأنّ أهل البدع ليسوا في حكم الهجر سواء، بل يختلف الحكم باختلاف الأحوال.
6. ومن الضوابط الشرعية للهجر: مراعات درجات البدعة ومراتبها، ذلك لأن البدعة ليست على مرتبةٍ واحدة، فمنها ما هو كفر، ومنها ما هو بمنزلة الكبائر، ومنها ما هو من الصغائر، ومنها ما هو واقعٌ في أمرٍ كلّي، ومنها ما هو واقعٌ في أمرٍ جزئي، ومنها ما هي بدعٌ حقيقية، وأخرى إضافية.
قال الشاطبي وهو يتكلم في حالات الإنكار على أصحاب البدع وأن كلا من ذلك بحسبه فقال: « إن القيام عليهم بالتثريب أو التنكيل أو الطرد أو الإبعاد أو الإنكار، هو بحسب حال البدعة في نفسها، من كونها عظيمة المفسدة في الدّين أم لا، وكون صاحبها مشتهراً بها أو لا، وداعياً إليها أو لا، ومستطيراً بالأتباع وخارجاً عن الناس أو لا، وكونه عاملاً بها على جهة الجهل أو لا، وكل من هذه الأقسام له حكم اجتهاديٌّ يخصّه » (46).
الخاتمة:
نحن في أيامنا هذه أحوج ما نكون إلى مراعاة هذه الضوابط الشرعية للهجر، إذ المغالاة في تطبيق أحكام الهجر، يجعل المسلم يبتعد عن كثيرٍ من إخوانه المسلمين بحجة وقوعهم في المعاصي، وقد تقتضي المصلحة مخالطتهم ونصحهم وإرشادهم بالأسلوب الحسن إلى الصواب.
والله تعالى أعلم
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه الفقير إلى عفو ربه/ يونس عبد الرب فاضل الطلول
بتاريخ/ 21 رجب 1429هـ الموافق 24/7 /2008 م.
________________________________________
حكم الهجر وضوابطه الشرعية
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، الهادي إلى سواء السبيل، والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:-
فإنّ الشّريعة الإسلامية قد أمرت المسلمين بأن يحققوا الأخوة بينهم، وأن يجتنبوا التدابر والتقاطع وهجْرَ بعضهم بعضاً فوق ثلاث، وغير ذلك ما هو منافٍ للمحبة والألفة بين المؤمنين، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات:10]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحلّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث أيام" (1).
وفي هذا البحث المتواضع، والذي هو بعنوان: حكم الهجر وضوابطه الشرعية، أردت بيان حكم الهجر بين المسلمين، هل هو منهي عنه على الإطلاق؟ أم أنَّ حكمه يختلف بحسب حال المهجور؟ وما هي الضوابط الشرعية التي يلزم مراعاتها عند الهجر، إن قلنا بجوازه؟
وسيكون السير في هذا البحث على النحو التالي:
1. تعريف الهجر في اللغة والشرع.
2. الأحاديث الواردة في عدم جواز الهجر وبيان عقوبته.
3. أنواع الهجر.
4. حكم الهجر.
5. الضوابط الشرعية في الهجر.
6. الخاتمة.
والله أسال التوفيق والسداد، والإخلاص في القول والعمل، وأن يتقبل مني هذا الجهد المتواضع، إنه أكرم من سُئِل.
فأقول مستعيناً بالله وهو حسبي ونعم الوكيل:
تعريف الهجر.
أ: تعريف الهجر في اللغة: هو عبارة عن مفارقة الإنسان غيره.
قال ابن منظور: « الهَجْرُ: ضد الوصل، هَجَره يَهْجُرُه هَجْراً وهِجْراناً: صَرَمَه، وهما يَهْتَجِرانِ ويَتَهاجَرانِ،... الهَجْر ضدَّ الوصلِ يعني فيما يكون بين المسلمين من عَتْبٍ ومَوْجِدَةٍ أَو تقصير يقع في حقوق العِشْرَة والصُّحْبَةِ دون ما كان من ذلك في جانب الدِّين» (2).
وقال المناي: «الهجر والهجران: مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن، أو باللسان، أو بالقلب، والهجرة والمهاجرة في الأصل: مفارقة الغير ومتاركته» (3).
ب: تعريف الهجر في الشرع:
الهجر في الشرع: هو مقاطعة الإنسان غيره (4).
وقال ابن رجب الحنبلي: « والهجران: مأخوذ من أن يولّي الرجل صاحبه دبره ويعرض عنه بوجهه، وهو التقاطع » (5).
ومن مفردات الهجر: عدم المجالسة، والمكالمة، وبسط الوجه للمهجور (6).
الأحاديث الواردة في عدم جواز الهجر وبيان عقوبته.
من الأحاديث الواردة في الهجر ما يلي:
1. حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث أيام" (7).
2. حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" (.
3. حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا أنظروا هذين حتى يصطلحا أنظروا هذين حتى يصطلحا" (9)، ومن طريق آخر عند مسلم:" إلا المتهاجرين".
4. حديث أبي هريرة - رضي الله عنه-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يحل لمؤمنٍ أن يهجر مؤمناً فوق ثلاث، فإن مرّت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم" (10).
5. حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار" (11).
6. حديث هشام بن عامر- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يحل لمسلمٍ أن يهجر مسلماً فوق ثلاث ليال، فان كان تصادرا فوق ثلاث، فإنهما ناكبان عن الحق ما داما على صرامهما، وأولهما فيا فسبقه بالفيء كفارته، فان سلم عليه فلم يرد عليه ورد عليه سلامه ردت عليه الملائكة ورد على الآخر الشيطان، فان ماتا على صرامهما لم يجتمعا في الجنة أبدا" (12).
7. حديث عائشة- رضي الله عنها- أنَّ عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة والله لتنتهين عائشة أو لأحجرَّن عليها، فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله علي نذر أن لا أكلّم ابن الزبير أبداً، فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة، فقالت: لا والله لا أشفع فيه أبدا ولا أتحنث إلى نذري، فلما طال ذلك على ابن الزبير، كلَّم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وهما من بني زهرة، وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة، فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي، فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلنا؟ قالت: نعم ادخلوا كلكم ولا تعلم أنّ معهما ابن الزبير، فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلمته وقبلت منه، ويقولان: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجرة فإنه:" لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال". فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفقت تذكّرهما وتبكي وتقول: إني نذرت والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خمارها (13).
فهذه الأحاديث المتقدمة تفيد أن الشَّرع لم يرخِّص الهجر بين المسلمين إلا بما دون ثلاث ليال، وما زاد على ذلك فلا يجوز، قال المناوي: « ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام بغير عذر شرعي» (14).
أنواع الهجر:
للهجر نوعان (15) وهما:
1. الهجر ديانة، أي الهجر لحق الله تعالى، وذلك في هجر السيئة، وهجر فاعلها. وقد ورد في ذلك قوله تعالى: ﴿ والرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر:5]، وقوله تعالى: ﴿واهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل:10]. وقوله تعالى: ﴿وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِين َ﴾ [الأنعام: 68 ]. وقد نقل البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تفسير هذه الآية: « دخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة» (16). وكذلك قوله تعالى: ﴿ وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا ويُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ﴾[ النساء: 140].
والهجر لحق الله تعالى يكون بترك المنكرات، وهجر من يظهر المنكرات عقوبةً له، وقد نصّ على ذلك ابن تيمية، فقال: « الهجر الشرعي نوعان: أحدهما: بمعنى الترك للمنكرات، والثاني: بمعنى العقوبة عليها فالأول هو المذكور في قوله تعالى: ﴿وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِين َ﴾ [الأنعام: 68 ]... فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم، وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم وأمثال ذلك، بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره، ولهذا يقال حاضر المنكر كفاعله... النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها» (17).
2. الهجر لاستصلاح أمر دنيوي، أي الهجر لحق العبد، وفيه جاءت أحاديث الهجر بما دون ثلاث ليال، وقد تقدم ذكرها.
حكم الهجر.
الأصل في هجر المسلم أن يكون لتحقيق مصلحةٍ دينية، كما قال المناوي: «ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه في الإسلام فوق ثلاث من الأيام، إلا لمصلحة دينية، كما دلت عليه أخبار وآثار» (18)، وهذا هو الأصل، ولكن إذا كان الهجر لأمر دنيوي، فلا يخلو من أن يكون في الثلاثة الأيام أو أن يزيد عليها.
• فإن كان الهجر دون ثلاث ليال، فهذا جائز، وقد دلَّ عليه مفهوم الأحاديث السابقة، وكذلك نصوص أهل العلم المتواترة، ومن ذلك ما قاله ابن حجر: « فالمعتمد أنّ المرخّص فيه ثلاثة أيام بلياليها، فحيث أطلقت الليالي أريد بأيامها، وحيث أطلقت الأيام أريد بلياليها، ويكون الاعتبار مضى ثلاثة أيام بلياليها ملفقة إذا ابتدأت مثلا من الظهر يوم السبت كان آخرها الظهر يوم الثلاثاء ويحتمل أن يلغى الكسر ويكون أول العدد من ابتداء اليوم أو الليلة والأول أحوط» (19).
وقال النووي: « قال العلماء: في هذا الحديث تحريم الهجر بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال وإباحتها في الثلاث، الأول: بنص الحديث، والثاني: بمفهومه، قالوا: وإنما عفي عنها في الثلاث؛ لأن الآدمي مجبولٌ على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك، فعفي عن الهجرة في الثلاثة؛ ليذهب ذلك العارض. وقيل: إن الحديث لا يقتضي إباحة الهجرة في الثلاثة، وهذا على مذهب من يقول لا يحتج بالمفهوم» (20). والأول أولى.
وقال ابن الأمير الصنعاني: «ودلّ مفهومه على جوازه ثلاثة أيام، وحكمة جواز ذلك هذه المدة أن الإنسان مجبولٌ على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك، فعفي له هجر أخيه ثلاثة أيام؛ ليذهب العارض تخفيفاً على الإنسان ودفعاً للإضرار به، ففي اليوم الأول: يسكن غضبه، وفي الثاني: يراجع نفسه، وفي الثالث: يعتذر، وما زاد على ذلك كان قطعاً لحقوق الأخوّة» (21).
• وإن كان الهجر بين المسلمين فوق ثلاث بدون مبرِّرٍ شرعيّ- كما سيأتي في الضوابط الشرعية- فهو حرامٌ؛ لما دلّ عليه منطوق الأحاديث المتقدمة، ومن هذه الأحاديث:"ولا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث أيام" (22). وفي بعض ما تقدم من الأحاديث الوعيد بالنار لمن زاد في هجر أخيه المسلم على الثلاث، كحديث:"... فمن هجر فوق ثلاثٍ فمات دخل النار" (23).
ومما يؤيد كذلك تحريم الهجر للمسلم فوق ثلاث بدون عذر شرعي، ما نقله ابن عبد البر من إجماع العلماء على عدم جواز الهجر فوق ثلاث، إلا لعذر شرعي كالإضرار بالدين، فقال ما نصه: « وأجمع العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته ما يفسد عليه دينه أو يولد به على نفسه مضرة في دينه أو دنياه فإن كان ذلك فقد رخص له في مجانبته وبعده ورب صرم جميل خير من مخالطة مؤذية» (24).
وقال الشيرازي: «لا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» (25).
وأما هجر عائشة لابن الزبير أكثر من ثلاثة أيام فقد ناقش الطيبي الجواب عن هجر عائشة لابن الزبير، فقال: « فإن قلت: لم هجرت عائشة بن الزبير أكثر من ثلاثة أيام؟ قلت: قد أجاب الطبري بأن المحرَّم إنما هو ترك السلام فقط، وأن الذي صدر من عائشة ليس فيه أنها امتنعت من السلام على بن الزبير ولا من ردِّ السلام عليه لـمّا بدأها بالسلام، قال وكانت عائشة لا تأذن لأحدٍ من الرجال أن يدخل عليها إلا بإذن، ومن دخل كان بينه وبينها حجاب إلا إن كان ذا محرمٍ منها، ومع ذلك لا يدخل عليها حجابها إلا بإذنها، فكانت في تلك المدة منعت بن الزبير من الدخول عليها كذا قال، قال الحافظ في الفتح: ولا يخفى ضعف المأخذ الذي سلكه من أوجه لا فائدة للإطالة بها، والصواب ما أجاب به غيره: أن عائشة رأت أنَّ بن الزبير ارتكب بما قال أمراً عظيما وهو قوله: لأحجرن عليها، فإنّ فيه تنقيصاً لقدرها» (26).
• وإن كان الهجر فوق ثلاث مع وجود عذرٍ شرعي مع مراعاة الضوابط التي سيأتي ذكرها، فقد أجازه أهل العلم، ومن الأدلة على جوازه حديث عبد الله بن مغفل- رضي اله عنه- أنه رأى رجلاً يخذف، فقال له: لا تخذف" فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف، أو كان يكره الخذف وقال: إنه لا يصاد به صيد، ولا ينكأ به عدو، ولكنها قد تكسر السن وتفقأ العين. ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال له: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخذف أو كره الخذف وأنت تخذف، لا أكلمك كذا وكذا" (27).
وقد وردت أقوال كثيرة للصحابة والتابعين ومن بعدهم في عدم مجالسة أهل الأهواء نظراً لانتفاء المصلحة من مجالستهم، وعِظم الضّرر الذي قد يحصل منهم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما:" لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب" (28).
وقال أبو قلابة:" لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبِّسوا عليكم في الدّين بعض ما لُبّس عليهم" (29).
وقال الحسن البصري:" لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم" (30).
وقال الشاطبي في معرض ذكره لأحكام أهل البدع: « الهجران وترك الكلام والسلام، حسبما تقدم عن جملةٍ من السلف في هجرانهم لمن تلبَّس ببدعة، وما جاء عن عمر - رضي الله عنه- من قصة صبيغ العراقي» (31).
وقال ابن تيميه: « فالمقصود بهذا أن يهجر المسلم السيئات ويهجر قرناء السوء الذين تضر صحبتهم، إلا لحاجةٍ، أو مصلحةٍ راجحة » (32).
وقال الغزالي: « الهجر فوق ثلاث جائز في موضعين:
أحدهما: أن يرى فيه إصلاحاً للمهجور في الزيادة.
الثاني: أن يرى لنفسه سلامة فيه» (33).
وقد بوَّبَ النووي فقال: باب تحريم الهجران بين المسلمين فوق ثلاثة أيام، إلا لبدعةٍ في المهجور أو تظاهرٍ بفسقٍ أو نحو ذلك (34).
وقال ابن رجب الحنبلي، مبينا جواز الزيادة في الهجر عن ثلاثة أيام في الهجر لأجل الدين، ما نصُّه: « فأما لأجل الدين فتجوز الزيادة على الثلاثة، نص عليه الإمام أحمد واستدل بقصة الثلاثة الذين خلفوا وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهجرانهم، لما خاف منهم النفاق وأباح هجران أهل البدع المغلظة والدعاة إلى الأهواء» (35).
بم يزول الهجر؟
نصَّت الأحاديث على أنّ الهجر يزول بالسلام ولا خلاف في هذا، قال ابن الأمير الصنعاني: «وفيه دلالة على زوال الهجر له بردّ السلام، وإليه ذهب الجمهور ومالك والشافعي... وقيل: ينظر إلى حال المهجور: فإن كان خطابه بما زاد على السلام عند اللقاء مما تطيب به نفسه ويزيل علّة الهجر كان من تمام الوصل وترك الهجر، وإن كان لا يحتاج إلى ذلك كفي السلام» (36).
وليس المقصود أن الهجر لا يزول إلا بالسلام فقط، بل قد يزول بغير السلام من المكاتبة والمراسلة والاتصال بكل الوسائل الحديثة؛ لأن هذا مما يزيل ما قطعه الهجر من الوصل، وممن قال بهذا من الفقهاء الشيرازي حيث قال: «وإن كاتبه أو راسله ففيه وجهان: أحدهما لا يخرج من مأثم الهجران؛ لأن الهجران ترك الكلام فلا يزول إلا بالكلام. والثاني: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة: أنه يخرج من مأثم الهجران؛ لأن القصد بالكلام إزالة ما بينهما من الوحشة وذلك يزول بالمكاتبة والمراسلة» (37).
وقد نقل النووي خلاف أصحاب المذهب في هذا، ورجح أن الهجر قد يزول بالمكاتبة والمراسلة، فقال: «قال أصحابنا: ولو كاتبه أو راسله عند غيبته عنه هل يزول إثم الهجرة وفيه وجهان: أحدهما: لا يزول؛ لأنه لم يكلمه، وأصحهما: يزول لزوال الوحشة» (38).
الضوابط الشرعية للهجر (39):
إذا زاد هجر المسلم عن ثلاثة أيام بغير سبب شرعي فهو منهيٌ عنه في الإسلام، وله أضرار سلبية على الفرد والمجتمع، والذي يدفع إلى الهجر بدون مبرر شرعي هو اتباع أهواء النفوس، واتباع وساوس الشيطان الذي يغوي بها أتباعه حتى يسوقهم إلى التنافر والتقاطع، ويجر إلى البغضاء والعداء بين المسلمين، لكن هنالك ضوابط شرعية ذكرها العلماء لجواز هجر المسلم فوق ثلاث، وهي ضوابط دقيقة يحتاج إلى التنبه الشديد لها، فهي ضوابط تجعل الهجر بعيداً عن غلوّ الغالين وتراخي الجافين، حيث انقسم الناس قديماً وحديثا إلى ثلاثة أقسام: طرفان ووسط، فقسم غالى في تطبيق أحكام الهجر من غير فقهٍ ونظرٍ إلى المصالح والمفاسد، وقسم تجافى عن العمل بهذه العقوبة الشرعية في كل الأحوال، وقسم ثالث وهم الوسط أخذوا بهذه العقوبة لكن بضوابطها الشرعية.
ومن هذه الضوابط الشرعية لهجر المسلم فوق ثلاثٍ، ما يلي:
1. مراقبة الله تعالى في الهجر، فهو الذي يعلم السر وأخفى. قال تقي الدين أبي بكر بن محمد الشافعي:« وهجران المسلم حرام فوق ثلاثة أيام، وهذا إذا كان الهجر لحظوظ النفس، وتعقُّبات أهل الدنيا » (40).
2. وجود سبب الهجر وانتفاء المانع، فيجوز هجر من يظهر المنكرات وهجر صاحب البدعة كذلك، والهجر في حق صاحب البدعة يعتبر عقوبة له، والشرع قد أجاز ذلك لتحقيق المصالح ودفع المفاسد، قال عبد الرحمن بن محمد البغدادي المالكي: «ولا يهجر مسلم مسلما فوق ثلاثٍ، إلا لبدعة» (41). وقال تقي الدين أبي بكر بن محمد الشافعي: « فإن كان عذرٌ بأن كان المهجور مذموم الحال، لبدعةٍ، أو فسقٍ، أو نحوهما، أو كان فيه صلاحٌ لدين الهاجر أو المهجور، فلا يحرم، وعلى هذا يحمل ما ثبت من هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه، ونهيه عليه الصلاة والسلام الصحابة عن كلامهم، وكذا ما جاء من هجران السلف بعضهم بعضا» (42).
إلا أنّ هذه العقوبة، وهي الهجر فوق ثلاث، لا تحلّ إلا بتحقق سببها الموجب لإيقاعها، وإلا أصبحت عدواناً وظلماً، والسبب الموجب لهجر المبتدع ما يلي:
أ- التأكد من وجود البدعة، فلا يكتفى بمجرد الشائعات، بل لابد من التأكد بسماع قوله أو رؤية فعله أو كتابته لاسيما في زماننا هذا الذي قلَّ فيه الورع، وندرت فيه الثقة، وكثر فيه التنافس وسهل فيه الرمي بالابتداع.
ب- أن تكون البدعة مما اتفق عليها، فلا يهجر في المسائل التي اختلفت آراء العلماء فيها بين البدعية وعدمها، ولا التي قد يشكل على العالم دليلها ومأخذها، ولا مما يعدُّ من مسائل الاجتهاد لمن توفرت فيه شروط الاجتهاد.
ج- ولا يكفي النظر إلى وجود سبب الهجر، بل لا بد من تحقق ارتفاع المانع عن المبتدع وذلك ببلوغ الحجة وفهمه لها حتى يزول مانع الجهل، ويرتفع الاشتباه الذي يكون به التأول، وهذا يحتاج إلى حكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ، ومجادلةٍ بالتي هي أحسن.
3. ومن الضوابط الشرعية للهجر، أن يكون الهجر محققاً للغايات الشرعية، وهي حفظ الشريعة، والتنفير من البدعة، وزجر المبتدع، وتحذير الناس من البدعة، فإن كان الهجر محققاً هذه المقاصد فهو هجر شرعي، وإن لم يحققها، فالتأليف أنفع من الهجر، وتحقيق الهجر لهذه الغايات يختلف باختلاف الهاجر والمهجور من حيث القوة والضعف والقلة والكثرة، وباختلاف انتشار البدعة من عدم انتشارها، وتحقيق المصلحة من عدمها، وفي ذلك يقول ابن تيمية: « وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فان المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فان كان المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضى هجره إلى ضعف الشر وخفيته، كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ولهذا كان النبي يتألف قوما ويهجر آخرين» (43).
4. ومن ضوابط الهجر مراعات المصلحة والمفسدة المترتبة على الهجر؛ لأن الشريعة جاءت كلها لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، فإذا تعارضت المصالح والمفاسد وجب ترجيح الراجح منهما، وإذا تزاحمت المصالح فلابد من تحقيق أعظم المصلحتين، وتفويت أدناهما، وإذا تزاحمت المفاسد فلابد من دفع أعظم المفسدتين، والأخذ بأدناهما، وأحوال الهجر لا تخلو عن ثلاث حالات:
أ- إما أن تترجح مصلحة الهجر فيكون مطلوباً. .
ب- وإما أن تترجح مفسدة الهجر فيكون منهيا عنه.
ج- وإما أن لا تترجح هذه ولا هذه، فالأقرب عدم الهجر، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:" ولا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث أيام" (44).
ومن التطبيقات لهذه القاعدة ما رواه ابن القيم عن شيخه ابن تيمية في شأن التّتار الذين مرَّ بهم وكانوا يشربون الخمر، فنهى عن الإنكار عليهم، وذلك لما يترتّب على تركهم شرب الخمر من مفاسد هي أعظم من شربهم الخمر، فقال: « إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم » (45).
وبناء على ذلك: فهجر صاحب المعصية والبدعة، إنما يكون بحسب المصلحة، إذ قد تكون المصلحة في مخالطته ونصحه والاستمرار معه؛ وذلك لأن كثيراً من أهل المعاصي لا يزيدهم الهجر غالباً إلاّ مكابرة وتمادياً في معصيتهم، فلا يكون في هجرهم فائدة لهم ولا لغيرهم، وقد تكون المصلحة في هجره مما يضطره للعودة لجادة الصواب، إذ الهجر دواء يستعمل حيث كان فيه الشفاء، وعند عدمه فلا.
5. ومن ضوابط الهجر كذلك: مراعاة حال المبتدع من حيث دعوته إلى بدعته وعدمها، ومن حيث إظهارها أو الاستتار بها، ومن حيث الجهل والتقليد، والإصرار وعدمه، وذلك لأنّ أهل البدع ليسوا في حكم الهجر سواء، بل يختلف الحكم باختلاف الأحوال.
6. ومن الضوابط الشرعية للهجر: مراعات درجات البدعة ومراتبها، ذلك لأن البدعة ليست على مرتبةٍ واحدة، فمنها ما هو كفر، ومنها ما هو بمنزلة الكبائر، ومنها ما هو من الصغائر، ومنها ما هو واقعٌ في أمرٍ كلّي، ومنها ما هو واقعٌ في أمرٍ جزئي، ومنها ما هي بدعٌ حقيقية، وأخرى إضافية.
قال الشاطبي وهو يتكلم في حالات الإنكار على أصحاب البدع وأن كلا من ذلك بحسبه فقال: « إن القيام عليهم بالتثريب أو التنكيل أو الطرد أو الإبعاد أو الإنكار، هو بحسب حال البدعة في نفسها، من كونها عظيمة المفسدة في الدّين أم لا، وكون صاحبها مشتهراً بها أو لا، وداعياً إليها أو لا، ومستطيراً بالأتباع وخارجاً عن الناس أو لا، وكونه عاملاً بها على جهة الجهل أو لا، وكل من هذه الأقسام له حكم اجتهاديٌّ يخصّه » (46).
الخاتمة:
نحن في أيامنا هذه أحوج ما نكون إلى مراعاة هذه الضوابط الشرعية للهجر، إذ المغالاة في تطبيق أحكام الهجر، يجعل المسلم يبتعد عن كثيرٍ من إخوانه المسلمين بحجة وقوعهم في المعاصي، وقد تقتضي المصلحة مخالطتهم ونصحهم وإرشادهم بالأسلوب الحسن إلى الصواب.
والله تعالى أعلم
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه الفقير إلى عفو ربه/ يونس عبد الرب فاضل الطلول
بتاريخ/ 21 رجب 1429هـ الموافق 24/7 /2008 م.
________________________________________